فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع} يعني: الفزع من الرسل: {وَجَاءتْهُ البشرى} بالولد، {يجادلنا في قَوْمِ لُوطٍ} يعني: يخاصم ويتشفع في قوم لوط.
وكان لوط ابن أخيه، وهو لوط بن هازر بن آزر وإبراهيم بن آزر، ويقال: ابن عمه، وسارة كانت أخت لوط؛ فلما سمعا بهلاك قوم لوط، اغتما لأجل لوط. وروى معمر، عن قتادة، قال لهم: أرأيتم لو كان فيها خمسون من المسلمين، أتعذبونهم؟ قالوا: لا نعذبهم. قال: أربعون؟ قالوا: ولا أربعون. قال: ثلاثون؟ قالوا ولا ثلاثون، حتى بلغوا عشرة. قال مقاتل: فما زال ينقص خمسة خمسة، حتى انتهى إلى خمسة أبيات، يعني: لو كان فيها خمسة أبيات من المسلمين لم يعذبهم.
ثمّ قال: {إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} الأواه: الذي إذا ذكر الله تعالى تأوه.
منيب: أي راجع إليه بالتوبة. وقد ذكرناه في سورة التوبة. ثم قال جبريل: {يا إبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هذا} يعني: اترك جدالك: {إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ} يعني: عذاب ربك: {وَإِنَّهُمْ اتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} يعني: غير مصروف عنهم. ثم خرجوا من عند إبراهيم، متوجهين إلى قوم لوط، فانتهوا إليهم نصف النهار، فإذا هم بجواري يسقين من الماء، فأَبصرتهم ابنة لوط، وهي تستقي من الماء، فقالت لهم: ما شأنكم؟ ومن أين أقبلتم؟ وأين تريدون؟ قالوا أقبلنا من مكان كذا، ونريد مكان كذا.
فأخبرتهم عن حال أهل المدينة، وخبثهم، فأظهروا الغم من أنفسهم، فقالوا: هل أحد يضيفنا؟ قالت: ليس فيها أحد يضيفكم، إلا ذلك الشيخ، وأشارت إلى أبيها لوط، وهو على بابه.
فأتوا لوطًا فلما رآهم وهيئتهم، ساءه ذلك، فذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {فلما ذهب عن إبراهيم الرّوع} يعني الفزع، والرُّوع بضم الراء النفس، ومنه قولهم ألقى في رُوعي أي في نفْسي.
{وجاءتْهُ البشرى} أي بإسحاق ويعقوب: {يجادلنا في قوم لوط} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه جادل الملائكة بقوله: {إن فيها لوطًا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينة وأهله} [العنكبوت: 32] قاله الحسن.
الثاني: أنه سألهم أتعذبونهم إن كان فيها خمسون من المؤمنين؟ قالوا لا، قال: فإن كان فيها أربعون؟ قالوا: لا، إلى أن أنزلهم إلى عشرة، فقالوا: لا، قاله قتادة. الثالث: أنه سألهم عن عذابهم هل هو عذاب الاستئصال فيقع بهم لا محالة على سبيل التخويف ليؤمنوا، فكان هذا هو جداله لهم وإن كان سؤالًا لأنه خرج مخرج الكشف عن أمر غامض.
قال أبو مالك: ولم يؤمن بلوط إلا ابنتاه رقية وهي الكبرى وعروبة وهي الصغرى. اهـ.

.قال ابن عطية:

{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}
{الروع}: الفزع والخيفة التي تقدم ذكرها، وكان ذهابه بإخبارهم إياه أنهم ملائكة. و: {البشرى}: تحتمل أن يريد الولد، ويحتمل أن يريد البشرى بأن المراد غيره، والأول أبين. وقوله: {يجادلنا} فعل مستقبل جائز أن يسد مسد الماضي الذي يصلح لجواب: {لما}، لاسيما والإشكال مرتفع بمضي زمان الأمر ومعرفة السامعين بذلك، ويحتمل أن يكون التقدير ظل أو أخذ ونحوه يجادلنا، فحذف اختصارًا لدلالة ظاهر الكلام عليه، ويحتمل أن يكون قوله، {يجادلنا} حالًا من: {إبراهيم} أو من الضمير في قوله: {جاءته}، ويكون جواب: {لما} في الآية الثانية: {قلنا يا إبراهيم أعرض عن هذا} واختار هذا أبو علي، والمجادلة: المقابلة في القول والحجج، وكأنها أعم من المخاصمة فقد يجادل من لا يخاصم كإبراهيم.
وفي هذه النازلة وصف إبراهيم بالحلم قيل: إنه لم يغضب قط لنفسه إلا أن يغضب لله. والحلم: العقل إلا إذا انضاف إليه أناة واحتمال. وال: {أواه} معناه: الخائف الذي يكثر التأوه من خوف الله تعالى؛ ويروى أن إبراهيم عليه السلام كان يسمع وجيب قلبه من الخشية، قيل: كما تسمع أجنحة النسور وللمفسرين في الأواه عبارات كلها ترجع إلى ما ذكرته وتلزمه. وال: {منيب}: الرجاع إلى الله تعالى في كل أمره.
وصورة جدال إبراهيم عليه السلام كانت أن قال إبراهيم: إن كان فيهم مائة مؤمن أتعذبونهم؟ قالوا لا. قال: أفتسعون؟ قالوا لا. قال: أفثمانون؟ فلم يزل كذلك حتى بلغ خمسة ووقف عند ذلك؛ وقد عد في بيت لوط امرأته فوجدهم ستة بها فطمع في نجاتهم ولم يشعر أنها من الكفرة، وكان ذلك من إبراهيم حرصًا على إيمان تلك الأمة ونجاتها، وقد كثر اختلاف رواة المفسرين لهذه الأعداد في قول إبراهيم عليه السلام، والمعنى كله نحو مما ذكرته، وكذلك ذكروا أن قوم لوط كانوا أربعمائة ألف في خمس قرى.
وقالت فرقة: المراد: {يجادلنا} في مؤمني قوم لوط- وهذا ضعيف- وأمره بالإعراض عن المجادلة يقتضي أنها إنما كانت في الكفرة حرصًا عليهم، والمعنى: قلنا يا إبراهيم أعرض عن المجادلة في هؤلاء القوم والمراجعة فيهم، فقد نفذ فيهم القضاء، و: {جاء أمر ربك} الأمر هنا: واحد الأمور بقرينة وصفه بالمجيء، فإن جعلناه مصدر أمر قدرنا حذف مضاف، أي جاء مقتضى أمر ربك ونحو هذا؛ وقوله: {آتيهم عذاب} ابتداء وخبر؛ جملة في موضع خبر: «إن» وقيل: {آتيهم} خبر: «إن» فهو اسم فاعل معتمد، و: {عذاب} فاعل ب: {آتيهم}.
وهذه الآية مقتضية أن الدعاء إنما هو أن يوفق الله الداعي إلى طلب المقدور، فأما الدعاء في طلب غير المقدور فغير مجد ولا نافع. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع} أي الخوف؛ يقال: ارتاع من كذا إذا خاف؛ قال النابغة:
فارتاعَ من صَوْتِ كَلاَّب فبات لهُ ** طوعَ الشَّوامِتِ من خوفٍ ومن صَرَدِ

{وَجَاءَتْهُ البشرى} أي بإسحق ويعقوب.
وقال قَتَادة: بشروه بأنهم إنما أتوا بالعذاب إلى قوم لوط، وأنه لا يخاف.
{يُجَادِلُنَا} أي يجادل رسلنا، وأضافه إلى نفسه، لأنهم نزلوا بأمره.
وهذه المجادلة رواها حُميد بن هلال عن جُنْدب عن حُذَيفة؛ وذلك أنهم لما قالوا: {إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هذه القرية} [العنكبوت: 31] قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا.
قال: فأربعون؟ قالوا: لا.
قال: فثلاثون؟ قالوا: لا قال: فعشرون؟ قالوا: لا.
قال: فإن كان فيها عشرة أو خمسة شك حميد قالوا: لا.
قال قَتَادة: نحوًا منه؛ قال فقال يعني إبراهيم: قوم ليس فيهم عشرة من المسلمين لا خير فيهم.
وقيل إن إبراهيم قال: أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا.
فقال إبراهيم عند ذلك: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} [العنكبوت: 32].
وقال عبد الرحمن بن سَمُرة: كانوا أربعمائة ألف.
ابن جُريج.
وكان في قرى قوم لوط أربعة آلاف ألف.
ومذهب الأخفش والكسائيّ أنّ {يجادلنا} في موضع {جادلنا}. قال النحاس: لما كان جواب {لمّا} يجب أن يكون بالماضي جعل المستقبل مكانه؛ كما أن الشرط يجب أن يكون بالمستقبل فجعل الماضي مكانه.
وفيه جواب آخر أن يكون {يجادلنا} في موضع الحال؛ أي أقبل يجادلنا؛ وهذا قول الفرّاء.
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} تقدّم في براءة معنى {لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}.
والمنيب الراجع؛ يقال: أناب إذا رجع. وإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان راجعًا إلى الله تعالى في أموره كلها.
وقيل: الأوّاه المتأوّه أسفًا على ما قد فات قوم لوط من الإيمان. قوله تعالى: {يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هاذا} أي دع عنك الجدال في قوم لوط.
{إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبَّكَ} أي عذابه لهم.
{وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ} أي نازل بهم.
{عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} أي غير مصروف عنهم ولا مدفوع. اهـ.

.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {فلما ذهب عن إبراهيم الروع} يعني: الفزع والخوف الذي حصل له عند امتناع الملائكة من الأكل: {وجاءته البشرى} يعني زال عنه الخوف بسبب البشرى التي جاءته وهي البشارة بالولد: {يجادلنا} فيه إضمار تقديره أخذ يجادلنا أو جعل يجادلنا ويخاصمنا وقيل معناه يكلمنا ويسألنا: {في قوم لوط} لأن العبد لا يقدر أن يخاصم ربه وقال جمهور المفسرين: معناه يجادل رسلنا في قوم لوط وكانت مجادلة إبراهيم مع الملائكة أن قال لهم أرأيتم لو كان في مدائن قوم لوط خمسون رجلًا من المؤمنين أتهلكونها قالوا لا قال فأربعون قالوا لا قال فثلاثون قالوا لا قال فما زال كذلك حتى بلغ خمسة قالوا لا قال أرأيتم لو كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها قالوا لا قال إبراهيم فإن فيها لوطًا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا أمرأته كانت من الغابرين وقيل إنما طلب إبراهيم تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون أو يرجعون عما هم فيه من الكفر والمعاصي، قال ابن جريج: كان في قرى قوم لوط أربعة آلاف مقاتل: {إن إبراهيم لحليم أوَّاه منيب} تقدم تفسيره في سورة التوبة فعند ذلك قالت الملائكة لإبراهيم: {يا إبراهيم أعرض عن هذا} يعني أعرض عن هذا المقال واترك هذا الجدال: {إنه قد جاء أمر ربك} يعني: إن ربك قد حكم بعذابهم فهو نازل بهم وهو قوله سبحانه وتعالى: {وإنهم آتيهم عذاب غير مردود} يعني أن العذاب الذي نزل بهم غير مصروف ولا مدفوع عنهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ}
والفعل راع يروع قال:
ما راعني إلا حمولة أهلها ** وسط الديار نسف حب الخمخم

وقال النابغة:
فارتاع من صوت كلاب فبات له ** طوع الشوامت من خوف ومن صرد

والروع بضم الراء النفس، لأنها موضع الروع.
{فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود}: الروع الخيفة التي كان أو جسها في نفسه حين نكر أضيافه، والمعنى: اطمأن قلبه بعلمه أنّهم ملائكة.
والبشرى تبشيره بالولد، أو بأنَّ المراد بمجيئهم غيره.
وجواب لما محذوف كما حذف في قوله: {فلما ذهبوا به} وتقديره: اجترأ على الخطاب اذ فطن للمجادلة، أو قال: كيت وكيت.
ودل على ذلك الجملة المستأنفة وهي يجادلنا، قال معناه الزمخشري.
وقيل: الجواب يجادلنا وضع المضارع موضع الماضي، أي جادلنا.
وجاز ذلك لوضوح المعنى، وهذا أقرب الأقوال.
وقيل: يجادلنا حال من إبراهيم، وجاءته حال أيضًا، أو من ضمير في جاءته.
وجواب لما محذوف تقديره: قلنا يا إبراهيم أعرض عن هذا، واختار هذا التوجيه أبو علي.
وقيل: الجواب محذوف تقديره: ظل أو أخذ يجادلنا، فحذف اختصارًا لدلالة ظاهر الكلام عليه.
والمجادلة قيل: هي سؤاله العذاب واقع بهم لا محالة، أم على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الطاعة.
وقيل: تكلمًا على سبيل الشفاعة، والمعنى: تجادل رسلنا.
وعن حذيفة انهم لما قالوا له: إنا مهلكوا أهل هذه القرية قال: أرأيتم ان كان فيها خمسون من المسلمين، أتهكلونها؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا.
قال: فثلاثون؟ قالوا: لا، قال: فعشرون؟ قالوا: لا.
قال: فإن كان فيهم عشرة أو خمسة شك الراوي؟ قالوا: لا.
قال: أرأيتم إن كان فيها رجل.
واحد من المسلمين أتهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك قال: إنَّ فيها لوطًا، قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجينه وأهله.
وكان ذلك من إبراهيم حرصًا على إيمان قوم لوط ونجاتهم، وكان في القرية أربعة آلاف ألف إنسان وتقدم تفسير حليم وأواه ومنيب.
يا إبراهيم أي: قالت الملائكة، والاشارة بهذا إلى الجدال والمحاورة في شيء مفروغ منه، والأمر ما قضاه وحكم به من عذابه الواقع بهم لا محالة.
ولا مرد له بجدال، ولا دعاء، ولا غير ذلك.
وقرأ عمرو بن هرم: وإنهم أتاهم بلفظ الماضي، وعذاب فاعل به عبر بالماضي عن المضارع لتحقق وقوعه كقوله: {أتى أمر الله}. اهـ.

.قال الثعالبي:

قوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع وَجَاءَتْهُ البشرى يجادلنا}: أي: أخذ يُجادِلُنا «في قومِ لوطٍ».
وقوله تعالى: {إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} وُصِفَ عليه السلام بالحِلْمِ، لأنه لم يغضَبْ قطُّ لنفسه إِلاَّ أَنْ يغضب للَّه، وأمْرُهُ بالإِعراض عن المُجَادلة يقتضي أنها إِنَّما كانَتْ في الكَفَرَةِ، حرصًا على إِسلامهم، و: {أَمْرُ رَبِّكَ} واحدُ الأمور، أي: نفذ فيهم قضاؤُهُ سبحانه، وهذه الآية مقتضيةٌ أنَّ الدعاء إِنما هو أنْ يوفِّق اللَّه الداعِيَ إِلى طَلَب المَقْدور، فأما الدُّعاء في طَلَبِ غير المقدورِ، فغير مُجْدٍ ولا نافع.
* ت *: والكلام في هذه المسألة متَّسعٌ رَحْبٌ، ومن أحسن ما قيل فيها قولُ الغَزَّالِيِّ في «الإِحياء»:
فإِنْ قلْتَ: فما فائدةُ الدُّعاءِ، والقَضَاءُ لا يُرَدُّ؟ فالجوابُ: أَنَّ من القضاءِ رَدَّ البلاءِ بالدعاءِ، فالدعاءُ سَبَبٌ لردِّ البلاء، واستجلاب الرحمة؛ كما أن التُّرْسَ سبَبٌ لردِّ السهم، والماء سبَبٌ لخروجِ النباتِ، انتهى. وقد أطال في المسألة، ولولا الإِطالة لأَتَيْتُ بِنُبَذٍ يثلج لها الصِدْرُ، وخرَّجَ الترمذيُّ في «جامعه» عن أبي خزامة، واسمه رِفَاعَةُ، عن أبيه، قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رقًّى نَسْتَرْقِيهَا، وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ، وتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّه شَيْئًا؟ قَالَ: «هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ»، قال أبو عيسَى: هذا حديثٌ حسن، وفي بعض نُسَخِهِ: حسنٌ صحيحٌ، انتهى. فليس وراء هذا الكلام من السيِّد المعصوم مرمًى لأَحدٍ، وتأمَّل جواب الفارُوق لأبِي عُبَيْدة، حِينَ هَمَّ بالرجوعِ مِنْ أجْلِ الدخول علَى أرْضٍ بها الطاعُونُ، وهي الشام. اهـ.

.قال أبو السعود:

{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع} أي ما أوجس منهم من الخِيفه واطمأن قلبُه بعِرفانهم وعرفانِ سببِ مجيئِهم، والفاءُ لربط بعض أحوالِ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام ببعضٍ غِبَّ انفصالِها بما ليس بأجنبي من كل وجهٍ بل له مدخلٌ تامٌّ في السباق والسياق، وتأخيرُ الفاعلِ عن الظرف لأنه مصبُّ الفائدةِ، فإن بتأخير ما حقُّه التقديمُ تبقى النفسُ منتظرةً إلى وروده فيتمكن فيها عند ورودِه إليها فضلُ تمكّنٍ: {وَجَاءتْهُ البشرى} إن فُسِّرت البُشرى بقولهم: لا تخف فسببيّهُ ذهابِ الخوفِ ومجيءِ السرور للمجادلة المدلولِ عليها بقوله تعالى: {يجادلنا في قَوْمِ لُوطٍ} أي جادل رسلَنا في شأنهم. وعُدل إلى صيغة الاستقبالِ لاستحضار صورتِها أو طفِقَ يجادلنا ظاهرةٌ، وأما إن فُسّرت ببشاره الولدِ أو بما يعُمها فلعل سببيّتَها لها من حيث إنها تفيد زيادةَ اطمئنانِ قلبه بسلامته وسلامةِ أهلهِ كافةً، ومجادلتُه إياهم أنه قال لهم حين قالوا له: إنا مُهلكو أهلِ هذه القريةِ: أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلًا من المؤمنين أتُهلكونها؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا، فثلاثون؟ قالوا: لا، حتى بلغ العشرةَ قالوا: لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجلٌ مسلمٌ أتهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك قال: إن فيها لوطًا قالوا: نحن أعلمُ بمن فيها لنُنجِّينه وأهلَه.
إن قيل: المتبادرُ من هذا الكلامِ أن يكون إبراهيمُ عليه السلام قد علِم أنهم مرسَلون لإهلاك قومِ لوطٍ قبل ذهابِ الرَّوع عن نفسه ولكن لم يقدِر على مجادلتهم في شأنهم لاشتغاله بشأن نفسِه فلما ذهب عنه الروعُ فرَغ لها مع أن ذهابَ الروعِ إنما هو قبل العِلم بذلك لقوله تعالى: {قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} قلنا: كان لوطٌ عليه السلام على شريعة إبراهيمَ عليه السلام وقومُه مكلّفين بها فلما رأى من الملائكة ما رأى خاف على نفسه وعلى كافة أمتِه التي من جملتهم قومُ لوط، ولا ريب في تقدم هذا الخوفِ على قولهم: لا تخف، وأما الذي علمه عليه السلام بعد النهي عن الخوف فهو اختصاصُ قومِ لوطٍ بالهلاك لا دخولُهم تحت العموم فتأملْ والله الموفق.
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ}
غيرُ عَجولٍ على الانتقام ممن أساء إليه: {أَوَّاهٌ} كثيرُ التأوّه على الذنوب والتأسفِ على الناس: {مُّنِيبٌ} راجعٌ إلى الله تعالى والمقصودُ بتعداد صفاتِه الجميلةِ المذكورةِ بيانُ ما حَمله عليه السلام على ما صدر عنه من المجادلة.
{يا إِبْرَاهِيمُ} أي قالت الملائكةُ: يا إبراهيمُ: {أَعْرِضْ عَنْ هذا} الجدالِ: {إِنَّهُ} أي الشأنَ: {قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ} أي قَدَرُه الجاري على وفق قضائِه الأزليِّ الذي هو عبارةٌ عن الإرادة الأزليةِ والعنايةِ الإلهية المقتضيةِ لنظام الموجوداتِ على ترتيب خاصَ حسب تعلُّقِها بالأشياء في أوقاتها، وهو المعبّر عنه بالقدر: {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} لا بجدال ولا بدعاء ولا بغيرهما. اهـ.